ابن الفقير
صفوان......
صفوان ابن العشرين , ولد و نمى في إحدى أرياف أقصى الشمال التي تطل على المدينة فتطفي عليها سحرا و تمدها تلألؤا , كغيره من أبناء الريف نشأ بين خط الأرض و خط الورق , فكان لأبيه على الحقل سندا , يقلب الأرض لينقلب رزقه , و أول ما درس كتاب الشمولية و الألوهية المنزل على خير من وطئت قدماه الثرى محمد (ص) , فزاد هذا اللسان فصاحة و أرداه أكثر طلاقة , ثم سلك كمعاصريه الابتدائية إلى أن بلغ ما يلزمه ترك ريفه لإتمام دراسته.
والد صفوان.....
صفوان وحيده من الذكران , و له من لإناث بنتان , أصغرهم يوم أبصرت النور رافقت أمها حمى لعينة لازمتها أياما , و لم تأبى الرحيل حتى وفت نصيبها من الأيام و تركت قرينها مع الثلاثة يقارع عقبات الزمن الذي يدور و لا يتريث لما حوله , فقام مقام الأب و الأم و آثر وحدته على لقب زوجة الأب .
كان خبر ترك صفوان له و رحيله عنه للدراسة لا يقل وخزا و حزا على قلبه من خبر وفاة زوجته , فتاه بين مطرقة كره فراق وليده و خوفه عليه و سندان ضياع أحلام الابن النابغ في تعلمه , و في ليلة أضاء القمر جلس الوالد و قد أطفى الضياء لمعان على سمرت جبينه , و غير بعيد عنه اجتمع الولد و البنتان يتأملان سكون أبيهم , فتكلم الأب و قال :
صفوان , أتعرف أن للمدينة صخبا و زحمتا ضاع بينهما الكثيرون , أتعرف أن لا أب هناك ولا عائلة ترعاك , و ها أنا أحيا بما تمليه أرضنا التي تركها جدك , أفتضنها تبخل عليك بما درت علي .
تنهد صفوان الحائر لأمره , كيف ينطق و هو الذي ما تعود قول لكن لأبيه و لو مرة , هل يكسر بلور الحياء من مجادلة أبيه , صمت الابن و طال صمته و كأن الحروف تزاحمت على لسانه فأحتار أيهن يلقي , و بقي منحني الرأس مشدود القبضة على طرف ثوبه , حينها عاد الأب و قال : ما قولك يا ولدي.
عندها استجمع الابن قواه و أبحر عكس التيار و رد بصعوبة و كأن الحروف تسحب من حلقه و قال : لست الأول يا أبي من يقبل على هذا , فهناك من أبناء الريف الكثير.
فرد الأب : يا بني ما قلت ما سمعت إلى بعد أن بلغت في نفسي ما لم يسبقك به غيرك في نفوس آبائهم , و إني لا أخشى أن تقطف المدينة نفسك الطيبة التي تفانيت في زرعها و تزرع مكانها ما لا يسر.
و هنا رد الابن وجلا و كأنه تلمس قبول أبيه وقال : لا تخشى يا ابي لست بالهين و ما نفسي بالوريقة يتلقفها الهوى.
فهز الوالد رأسه و وقع توقيع القبول و ابتسم بخفة تجب ما بداخله و قال : إن شاء الله.
نزل صفوان المدينة و زاول دراسته و أحس لأول مرة بأن الناس درجات , فلا هو يتكلم كما يتكلمون و لا ملبسه كما يلبسون , و حال أسرته يحفظه عن ظهر قلب , فصار يشتغل في احد المطابع في الفترة المسائية حتى يوفي تكاليف دراسته , و كان يزور أهله بانتظام , و استمر الوضع بين عمل و دراسة حتى وفق و أتم دراسته بتقدير جيد , وعين في أحد كبرى الشركات فأبصر أفقا لم تكن بباله و انفتح له ألف باب , و مع رفض أبيه النزول المدينة و تحسن حال صفوان فصار يغيب عن مواعيد زيارة أهله حتى صار يغيب بالشهور و قلب والده زلزل ألف مرة و أكلة الحرقة نفسه مليا.
كان صفوان دءوبا في عمله يكد و يجد حتى بلغ مناصبا راقية , و كانت بنت صاحب الشركة تشتغل لدى أبيها فأعجب بها , و قرر التقدم لها لما كان يحظى به من مكانة في نفس أبيها , و ليته ما فعل , فقد سمع منه ما يكسر الفؤاد وقال له : أنسيت أن ملفك عندي , أعرف أصلك و فصلك , أيعقل أن يصير والدك صهري , أخرج و خذ معك قلة أدبك يا ابن الفلاح .
أحس صفوان بالدنيا تدور حوله , و بأنه ظلم أباه النبيل ظلما شديدا لما عرضه من قول , فأنهار و خرج هائما و وجد ضالته في أم الرذائل الخمر , فأصبح مدمنا لا يعمل حتى نفذ ما عنده , و مرة بينما هو في سكرة شديدة تجلى أباه أمامه و هو يقول : يا بني أتعرف أن للمدينة صخبا و زحمتا ضاع بينهما الكثيرون.
فنهض صفوان يطارد ضل أبيه يريد ان يعانقه فسقط على الأرض من شدة السكر , و لما طلع النهار توجه مباشرة لبيت أبيه فقد نبذته الحياة , لكن هيهات أن ينتظر الزمن , أبوه رحل و استراح و أدرك زوجته , و أختاه رحلتا مع عمتهما , فسقط جاثيا و هو يشعر بالإثم , يشعر أنه قتل أجمل ابتسامة , دنس أجمل حديقة , انتفض يصيح باكيا باحثا يطارد الأيام التي خلت علها تعود.........
فهل تعود