هذا الصباح ليس كغيره من الايام .. عادة أستيقظ باكرا مع آذان الفجر لاستعد ليوم فريد من نوعه لايتكرر ألا مرة واحدة في الشهر . لكن هذا اليوم بالضبط له طعم آخر ، فهو آخر الشهر مما يعني أنني سأحج الى الخزينة العامة لتسلم راتبي ، عفوا ما تبقى من راتبي بعد الاقتطاعات الكثيرة : من ضريبة للدولة تسميها ضريبة على الدخل تصورا ،اقتطاع للتضامن ، اقتطاع لأقساط السلفات والقروض التي لم أعد أعرف كم عددها بالضبط.. ثم بعد ذلك سأتوجه مباشرة الى المحطة الطرقية لأسافر حيث تتواجد زوجتي الحبيبة وابني الغالي ، فقد افتقدتهما كثيرا ولم أعد أطيق حياة العزوبية المفروضة على منذ شهر ..
نهضت من السرير وأنا مفعم حيوية ونشاط واقبال على الحياة . اغتسلت بماء دافء، حلقت دقني ..سرحت شعري ..وارتديت أحسن ما عندي من ثياب بعدما لمعت حدائي القديم والوحيد جيدا ، حملت حقيبتي القديمة وانصرفت ..
انعرجت على الخزينة العامة ..تسلمت ماتبقى من راتبي وذهبت مباشرة الى المحطة الطرقية لمدينة مراكش ، لحسن الحظ كانت هناك حافلة على اهبة الانطلاق حيث تتواجد زوجتي وابني بمدينة الدار البيضاء .. لم أنتظر كثيرا، أخذت مكاني في المقاعد الاولى من الحافلة بالقرب من السائق حتى استمتع بمشاهدة المناظر الرائعة .. لم يمضي زمن كثير بدأت الحافلة تمتلء بالمسافرين ..رغم انني اخترت المقعد الاول الا ان احدا لم يجلس بجواري او يطلب ذلك ، ربما لأنني وبدون شعور مني وضعت حقيبتي في المقعد القريب مني بجانبي فلم يجرء احد على الجلوس فيه ظنا منهم انه محجوز لشخص ما ، لكن وفجأة ظهرت سيدة في العقد الثالث ،هيفاء جميلة جدا .. صهباء او هكذا تبدو شعرها أحمر .. مرتدية لباسا أنيقا ..جالت بعينيها على الحافلة وركابها ثم اقتربت مني .. ربما انا الشخص الوحيد الذي بدا أنيقا .. ربما العطر الذي وضعته هو الذي جدبها ..لا أدري ..
- هل تسمح ..؟!
ارتبكت قليلا كل الانظار كانت مصوبة نحوها .. انها سيدة فعلا حسناء وواثقة من نفسها .. هادئة .. بابتسامتها الصباحية تلون وجهها بلون السعادة والتفاؤل ابتسامته المتميزة كانت كدعوة مفتوحة ..
- نعم .. تفضلي ..!
أخذت حقيبتي بسرعة ووضعتها فوق ركبتي ..
-شكرا سيدي..!
- العفو ..!
أخذت المقعد بالقرب مني ..لم تتأخر الحافلة حتى انطلقت تمخر عباب الطريق السيار الرابط بين مدينتي مراكش والدار البيضاء محطتي الاخيرة ..
أحسست بقليل من الاسترخاء ، اسندت رأسي على النافذة وأخذت في الاستمتاع بالمشاهدة .. كان الجور حار نسبيا مع بعض الرطوبة ..أحيانا تسبب لي بعض الغثيان والاختناق .. ودون سابق انذار وجهت الي جارتي الكلام..
- اين محطتك الاخيرة ..
صوتها الانثوي الرقيق والعذب جعلني اذخل في مقارنات غريبة ما لبت ان طردتها من ذهني واستدرت نحوها ببطء ، نظرت اليها نظرة سريعة لكنها كانت كافية لتؤكد لي حسنها ورقتها وعذوبتها ..
- الدار البيضاء ..!
ابتسمت مشجعة أياي على مواصلة الحديث ثم أردفت :
-محطتي الرباط ..!
استويت في جلوسي وضعت يدي بين ركبتي كطفل صغير ..
- هل السيدة من مراكش ..؟
ابتسمت مرة اخرى ولكن هذه المرة كانت الابتسامة عريضة وضعت أصابعها على شفتيها وقالت :
-انا آنسة ..!
استدركت الامر بسرعة
-معذرة ..
ابتسمت مرة أخرى وقالت :
أجل انا مراكشية أبا عن جد ..
كانت تتابع حركاتي وتلاحظ اضطرابي .. بدأت أتصبب عرقا شعور مقزز بالغثيان والرغبة في التقيؤ .. لقفت المشهد الدرامي لوضعيتي المزري ..
لم تتردد أخرجت علبة من حقيبة اليد الصغيرة ، فتحتها برشاقة ، أخرجت منها حبة دواء صغيرة .. عرفت انها تلك الحبة التي أتناولها عادة قبل الصعود الى الحافلة لتقيني من الغثيان و دوار الطريق .. نسيت اخذها اليوم قبل مغادرة البيت .. شعرت بسرور عارم وأنا أنظر اليها تخرج تلك الحبة السحرية من حقيبتها كنت فعلا بحاجة ماسة اليها ..
- تفضل هذه الحبة ستريحك انا شخصيا لا أستغني عنها أبدا ..
- شكرا جزيلا آنستي كنت بالفعل محتاج اليها ..
ابتسمت ابتسامتها العريضة وكانها انتصرت في معركة ما ..
تناولت الحبة .. وضعت سماعة مذياع صغير في اذناي .. أحسست بيد قوية تربث على كتفي ..استفقت بصعوبة ..وجدت نفسي أمام رجل أسمر البشرة قوي البنية ينظر الي نظرة غريبة ..
-سيدي لقد وصلنا ..
حاولت النهوض لكنني لم أتمكن ساعدني الرجل القوي ..
- ياه لقد استغرقني النوم .. عجيب ..لم أتذكر أي شئ.. لكن أين أنا الان ..؟
- أنت داخل المحطة الطرقية للرباط ..
لكن .. اسمح لي .. أنا .. .. كان علي الهبوط بالدار البيضاء ..
أخرجت من حقيبتي قنينة ماء شربت قليلا منها وصببت المتبقي على شعري .. اقترب الر جل مني وأخرج من جيبه حقيبة جلدية جيبية كانت حقيبتي التي أضع فيها كل وثائقي ونقودي
_ هذه الحقيبة سلمتني أياها السيدة التي كانتى تجلس بجوارك .. قالت أنها أختك ..
فتحت الحقيبة كان كل شئ في مكانه الا شئ واحد .. راتبي كان قد اختفى ..!